فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في أنواع النسخ:

قال الفخر:
المنسوخ إما أن يكون هو الحكم فقط أو التلاوة فقط أو هما معًا، أما الذي يكون المنسوخ هو الحكم دون التلاوة فكهذه الآيات التي عددناها، وأما الذي يكون المنسوخ هو التلاوة فقط فكما يروى عن عمر أنه قال: كنا نقرأ آية الرجم: {الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم} وروي: {لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثًا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب}، وأما الذي يكون منسوخ الحكم والتلاوة معًا، فهو ما روت عائشة رضي الله عنها أن القرآن قد نزل في الرضاع بعشر معلومات ثم نسخن بخمس معلومات، فالعشر مرفوع التلاوة والحكم جميعًا والخمس مرفوع التلاوة باقي الحكم.
ويروى أيضًا أن سورة الأحزاب كانت بمنزلة السبع الطوال أو أزيد ثم وقع النقصان فيه. اهـ.

.فصل في المعنى المراد بالنسخ في الآية:

قال الفخر:
اختلف المفسرون في قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا} فمنهم من فسر النسخ بالإزالة ومنهم من فسره بالنسخ بمعنى نسخت الكتاب وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب، ومن قال بالقول الأول ذكروا فيه وجوهًا، أحدها: ما ننسخ من آية وأنتم تقرءونه أو ننسها أي من القرآن ما قرئ بينكم ثم نسيتم وهو قول الحسن والأصم وأكثر المتكلمين فحملوه على نسخ الحكم دون التلاوة، وننسها على نسخ الحكم والتلاوة معًا، فإن قيل: وقوع هذا النسيان ممنوع عقلًا وشرعًا.
أما العقل فلأن القرآن لابد من إيصاله إلى أهل التواتر، والنسيان على أهل التواتر بأجمعهم ممتنع.
وأما النقل فلقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الحجر: 9] والجواب عن الأول من وجهين.
الأول: أن النسيان يصح بأن يأمر الله تعالى بطرحه من القرآن وإخراجه من جملة ما يتلى ويؤتى به في الصلاة أو يحتج به، فإذا زال حكم التعبد به وطال العهد نسي أو إن ذكر فعلى طريق ما يذكر خبر الواحد فيصير لهذا الوجه منسيًا عن الصدور، الجواب الثاني: أن ذلك يكون معجزة للرسول عليه الصلاة والسلام، ويروى فيه خبر: أنهم كانوا يقرأون السورة فيصبحون وقد نسوها، والجواب عن الثاني: أنه معارض بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى إِلاَّ مَا شَاء الله} [الأعلى: 6] وبقوله: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24].
القول الثاني: ما ننسخ من آية أي نبدلها، إما بأن نبدل حكمها فقط أو تلاوتها فقط أو نبدلهما، أما قوله تعالى: {أَوْ نُنسِهَا} فالمراد نتركها كما كانت فلا نبدلها، وقد بينا أن النسيان بمعنى الترك قد جاء، فيصير حاصل الآية أن الذي نبدله فإنا نأتي بخير منه أو مثله.
القول الثالث: ما ننسخ من آية، أي ما نرفعها بعد إنزالها أو ننسأها على قراءة الهمزة أي نؤخر إنزالها من اللوح المحفوظ، أو يكون المراد نؤخر نسخها فلا ننسخها في الحال، فإنا ننزل بدلها ما يقوم مقامها في المصلحة.
القول الرابع: ما ننسخ من آية، وهي الآية التي صارت منسوخة في الحكم والتلاوة معًا، أو ننسها، أي نتركها وهي الآية التي صارت منسوخة في الحكم ولكنها غير منسوخة في التلاوة، بل هي باقية في التلاوة، فأما من قال بالقول الثاني: ما ننسخ من آية، أي ننسخها من اللوح المحفوظ أو ننسأها، نؤخرها.
وأما قراءة {ننسها} فالمعنى نتركها يعني نترك نسخها فلا ننسخها.
وأما قوله: {مّنْ ءايَةٍ} فكل المفسرين حملوه على الآية من القرآن غير أبي مسلم فإنه حمل ذلك على التوراة والإنجيل وقد تقدم القول فيه. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ففيه قولان.
أحدهما: أنه الأخف، والثاني: أنه الأصلح، وهذا أولى لأنه تعالى يصرف المكلف على مصالحه لا على ما هو أخف على طباعه.
فإن قيل: لو كان الثاني أصلح من الأول لكان الأول ناقص الصلاح فكيف أمر الله به؟ قلنا: الأول أصلح من الثاني بالنسبة إلى الوقت الأول، والثاني بالعكس منه فزال السؤال. اهـ.

.فصل في استنباط مسائل النسخ:

قال الفخر:
اعلم أن الناس استنبطوا من هذه الآية أكثر مسائل النسخ:
المسألة الأولى:
قال قوم: لا يجوز نسخ الحكم إلا إلى بدل، واحتجوا بأن هذه الآية تدل على أنه تعالى إذا نسخ لابد وأن يأتي بعده بما هو خير منه أو بما يكون مثله، وذلك صريح في وجوب البدل.
والجواب: لم لا يجوز أن يقال: المراد أن نفي ذلك الحكم وإسقاط التبعد به خير من ثبوته في ذلك الوقت، ثم الذي يدل على وقوع النسخ لا إلى بدل أنه نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم لا إلى البدل.
المسألة الثانية:
قال قوم: لا يجوز نسخ الشيء إلى ما هو أثقل منه واحتجوا بأن قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ينافي كونه أثقل، لأن الأثقل لا يكون خيرًا منه ولا مثله.
والجواب: لم لا يجوز أن يكون المراد بالخير ما يكون أكثر ثوابًا في الآخرة، ثم إن الذي يدل على وقوعه أن الله سبحانه نسخ في حق الزناة الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، وكانت الصلاة ركعتين عند قوم فنسخت بأربع في الحضر.
إذا عرفت هذا فنقول: أما نسخ الشيء إلى الأثقل فقد وقع في الصور المذكورة، وأما نسخه إلى الأخف فكنسخ العدة من حول إلى أربعة أشهر وعشر، وكنسخ صلاة الليل إلى التخيير فيها.
وأما نسخ الشيء إلى المثل فكالتحويل من بيت المقدس إلى الكعبة.
المسألة الثالثة:
قال الشافعي رضي الله عنه: الكتاب لا ينسخ بالسنة المتواترة واستدل عليه بهذه الآية من وجوه:
أحدها: أنه تعالى أخبر أن ما ينسخه من الآيات يأت بخير منها وذلك يفيد أنه يأتي بما هو من جنسه، كما إذا قال الإنسان: ما آخذ منك من ثوب آتيك بخير منه، يفيد أنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه، وإذا ثبت أنه لابد وأن يكون من جنسه فجنس القرآن قرآن، وثانيها: أن قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا} يفيد أنه هو المنفرد بالإتيان بذلك الخير، وذلك هو القرآن الذي هو كلام الله دون السنة التي يأتي بها الرسول عليه السلام، وثالثها: أن قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا} يفيد أن المأتي به خير من الآية، والسنة لا تكون خيرًا من القرآن، ورابعها: أنه قال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} دل على أن الآتي بذلك الخير هو المختص بالقدرة على جميع الخيرات وذلك هو الله تعالى.
والجواب عن الوجوه الأربعة بأسرها: أن قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا} ليس فيه أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخًا، بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئًا مغايرًا للناسخ يحصل بعد حصول النسخ، والذي يدل على تحقيق هذا الاحتمال أن هذه الآية صريحة في أن الإتيان بذلك الخير مرتب على نسخ الآية الأولى، فلو كان نسخ تلك الآية مرتبًا على الإتيان بهذا الخير لزم الدور وهو باطل، ثم احتج الجمهور على وقوع نسخ الكتاب بالسنة لأن آية الوصية للأقربين منسوخة بقوله عليه الصلاة والسلام: «ألا لا وصية لوارث» وبأن آية الجلد صارت منسوخة بخبر الرجم.
قال الشافعي رضي الله عنه: أما الأول: فضعيف لأن كون الميراث حقًا للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية، فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية، وأما الثاني: فضعيف أيضًا لأن عمر رضي الله عنه روى أن قوله: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة كان قرآنًا فلعل النسخ إنما وقع به، وتمام الكلام فيه مذكور في أصول الفقه. والله أعلم. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ}:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فتنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره على قدرته تعالى على تصريف المكلف تحت مشيئته وحكمه وحكمته، وأنه لا دافع لما أراد ولا مانع لما اختار. اهـ.
سؤال: فإن قيل: أو كان النبي صلى الله عليه وسلم غير عالم بأن الله على كل شيء قدير، وأن الله له ملك السموات والأرض؟ قيل: عن هذا ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن قوله ألم تعلم بمعنى أعلمت.
والثاني: أنه خارج مخرج التقرير، لا مخرج الاستفهام. كما قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَم أَنتَ قُلْتَ لِلْنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ} [المائدة: 116] خرج مخرج التقرير لا مخرج الاستفهام.
والثالث: أن هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أمته، ألا تراه قال بعد ذلك: {وَمَا لَكُم مِّنْ دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}. اهـ.

.فصل في كلام المعتزلة في خلق القرآن:

قال الفخر:
استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن القرآن مخلوق من وجوه، أحدها: أن كلام الله تعالى لو كان قديمًا لكان الناسخ والمنسوخ قديمين، لكن ذلك محال، لأن الناسخ يجب أن يكون متأخرًا عن المنسوخ، والمتأخر عن الشيء يستحيل أن يكون قديمًا، وأما المنسوخ فلأنه يجب أن يزول ويرتفع، وما ثبت زواله استحال قدمه بالإتفاق، وثانيها: أن الآية دلت على أن بعض القرآن خير من بعض، وما كان كذلك لا يكون قديمًا، وثالثها: أن قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} يدل على أن المراد أنه تعالى هو القادر على نسخ بعضها والإتيان بشيء آخر بدلًا من الأول، وما كان داخلًا تحت القدرة وكان فعلًا كان محدثًا، أجاب الأصحاب عنه: بأن كونه ناسخًا ومنسوخًا إنما هو من عوارض الألفاظ والعبارات واللغات ولا نزاع في حدوثها، فلم قلتم إن المعنى الحقيقي الذي هو مدلول العبارات والاصطلاحات محدث؟ قالت المعتزلة: ذلك المعنى الذي هو مدلول العبارات واللغات لا شك أن تعلقه الأول قد زال وحدث له تعلق آخر، فالتعلق الأول محدث لأنه زال والقديم لا يزول، والتعلق الثاني حادث لأنه حصل بعدما لم يكن، والكلام الحقيقي لا ينفك عن هذه التعلقات، وما لا ينفك عن هذه التعلقات محدث وما لا ينفك عن المحدث محدث والكلام الذي تعلقت به يلزم أن يكون محدثًا.
أجاب الأصحاب: أن قدرة الله كانت في الأزل متعلقة بإيجاد العالم، فعند دخول العالم في الوجود هل بقي ذلك التعلق أو لم يبق؟ فإن بقي يلزم أن يكون القادر قادرًا على إيجاد الموجود وهو محال، وإن لم يبق فقد زال ذلك التعلق فيلزمكم حدوث قدرة الله على الوجه الذي ذكرتموه، وكذلك علم الله كان متعلقًا بأن العالم سيوجد، فعند دخول العالم في الوجود إن بقي التعلق الأول كان جهلًا، وإن لم يبق فيلزمكم كون التعلق الأول حادثًا، لأنه لو كان قديمًا لما زال، وبكون التعلق الذي حصل بعد ذلك حادثًا فإذن عالمية الله تعالى لا تنفك عن التعلقات الحادثة، وما لا ينفك عن المحدث محدث فعالمية الله محدثة.
فكل ما تجعلونه جوابًا عن العالمية والقادرية فهو جوابنا عن الكلام. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير}.
قال ابن عطية: ظاهره الاستفهام المحض، فالمعادل هنا على قول جماعة: أم تريدون.
وقال قوم: أم هنا منقطعة، فالمعادل على قولهم محذوف تقديره: أم علمتم، وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبة أمته، وأما إن كان هو المخاطب وحده، فالمعادل محذوف لا غير، وكلا القولين مروي. انتهى كلامه ونقله.
وما قالوه ليس بجيد، بل هذا استفهام معناه التقرير، فلا يحتاج إلى معادل ألبتة، والأولى أن يكون المخاطب السامع، والاستفهام بمعنى التقرير كثير في كلامهم جدًا، خصوصًا إذا دخل على النفي: {أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين} {أليس الله بأحكم الحاكمين} {ألم نربك فينا وليدًا} {ألم يجدك يتيمًا فآوى} {ألم نشرح لك صدرك} فهذا كله استفهام لا يحتاج فيه إلى معادل، لأنه إنما يراد به التقرير.
والمعنى: قد علمت أيها المخاطب أن الله قادر على كل شيء، فله التصرف في تكاليف عباده، بمحو وإثبات وإبدال حكم بحكم، وبأن يأتي بالأخير لكم وبالمماثل.
وحكمة إفراد المخاطب: أنه ما من شخص إلا يتوهم أنه المخاطب بذلك، والمنبه به، والمقرر على شيء ثابت عنده، وهو أن قدرة الله تعالى متعلقة بالأشياء، فلن يعجزه شيء، فإذا كان كذلك لم ينكر النسخ، لأن الله تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا رادَّ لأمره، ولا معقب لحكمه.
وفي قوله: {ألم تعلم أن الله}، فيه خروج من ضمير جمع مخاطب وهو: {من خير من ربكم}، إلى ضمير مخاطب مفرد للحكمة التي بيناها، وخروج من ضمير متكلم معظم نفسه، إلى اسم ظاهر غائب وهو الله، إذ هو الاسم العلم الجامع لسائر الصفات، ففي ضمنه صفة القدرة، فهو أبلغ في نسبة القدرة إليه من ضمير المتكلم المعظم، فلذلك عدل عن قوله: {ألم تعلم أننا} إلى قوله: {ألم تعلم أن الله}، وقد تقدم تفسيره قوله: {إن الله على كل شيء قدير} في أوائل هذه السورة، فأغنى ذلك عن إعادته. اهـ.

.قال الفخر:

احتجوا بقوله تعالى: {أَنَّ الله على كُلِّ شَيء قَدِيرٌ} على أن المعدوم شيء وقد تقدم وجه تقريره فلا نعيده، والقدير فعيل بمعنى الفاعل وهو بناء المبالغة. اهـ.